كنت الصوت النشاز الوحيد؟ صدقوني، كان بودي أن أكون هانئاً سعيداً مثل غيري ممن أيدوا سياساتنا الخارجية الجارية، وظلوا على قناعة لا تتزعزع، بأن كل شيء يمضي على ما يرام. غير أن الحقائق تطرد عني التفاؤل وتقصيه. من بين هذه الحقائق، دعنا نأخذ مثالا، ما يزعم من نجاح حققناه في أفغانستان. عودة إلى الحملة الانتخابية الرئاسية، لنذكر احتفاء الرئيس بوش، بما بدا له نجاحاً إلهياً تحقق في أفغانستان، بتوجيهها من بؤرة للتطرف والحروب الأهلية والنزاعات، إلى طريق الديمقراطية الراسخة المستقرة! وفي هذا المعنى ورد على لسان بوش نفسه، قوله في المناظرة الرئاسية الثالثة:"في اعتقادي، فإن الحرية التي تحققت هناك في أفغانستان، إنما هي هبة من الرب. وليس في وسعي أن أخبركم كم أنا متحمس لرؤية الحرية وهي تشق طريقها إلى الأمام". وبالمقارنة مع العراق، فقد كلفت أفغانستان، أرواحاً أميركية أقل بكثير مما هو عليه حال الخسائر البشرية الكبيرة في العراق، علاوة على أن الحرب على أفغانستان وإسقاط نظام طالبان فيها، لم يكلفا دافع الضريبة الأميركي، ما كلفته الحرب على العراق، وإسقاط نظام صدام حسين. وفوق ذلك، فقد كان إجراء الانتخابات الرئاسية في أفغانستان، أكثر سلاسة وأمناً بما لا يقاس بالاضطرابات الأمنية الماثلة حتى الآن في العراق.
ومع أننا لم نلق القبض على أسامة بن لادن، ولا على زعيم طالبان الملا محمد عمر، ولا يزال نحو 20 ألف جندي أميركي، يرابطون في أوضاع سيئة هناك، إلا أن السؤال هو: من أكون أنا كي أثير كل هذه التساؤلات، وها هي وردة الديمقراطية تتفتح زاهية هناك؟ بيد أن الحقيقة هي أن الحرية في أفغانستان، لا تزال هشة مزعزعة، لم ترسخ بعد. صحيح أننا أسقطنا نظام طالبان، وطردنا الحركة من العاصمة كابول. ولكن طالبان لا تزال موجودة في الريف، ولا تزال أقسام واسعة من الريف الأفغاني، تدار بواسطة لوردات الحرب، المتنافسين على السلطة والنفوذ فيما بينهم.
يجدر بالذكر أن الأفيون يمثل الركيزة الاقتصادية الأساسية التي يعتمد عليها لوردات الحرب هؤلاء. ويشكل الأفيون حوالي 60 في المئة من إجمالي عائدات الاقتصاد الأفغاني. وها هو الخوف من أن تنحدر أفغانستان إلى "دولة مخدرات" بالدرجة الأولى، يتحول إلى حقيقة، وإن كان ذلك على نحو تدريجي وبطيء. ذلك هو ما أكده أنتونيو ماريا كوستا، مدير "مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة" بقوله:"في وسع زراعة الأفيون التي انتشرت في أفغانستان، كما تنتشر النار في الهشيم، أن تقضي على أي شيء وتحيله إلى حطام، سواء كان الديمقراطية، أم إعادة البناء، أم الاستقرار". وكان مكتب السيد كوستا، قد أصدر مؤخراً قائمة بإحصاءات وأرقام، تثير الفزع حول ارتفاع زراعة وتجارة الأفيون في أفغانستان خلال العام الماضي، محققة أعلى معدلاتها على الإطلاق. فالخشخاش الذي يمثل المادة الأولية التي يستخلص منها الأفيون، يكاد يغطي اليوم أراضي المحافظات الأفغانية جميعها. وفي العام الماضي وحده، ارتفعت نسبة الأراضي المزروعة بالخشخاش، إلى 64 في المئة، بينما ارتفع الإنتاج الأفغاني من الأفيون، إلى 87 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي. ويعمل الأفغان بنسبة 1-10 من تعداد السكان، في هذه المهنة غير القانونية، حسبما جاء في التقرير المنذر الذي أصدره "مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة".
وإن كان هناك ما لا يطمئن إلى المعلومات التي تصدرها هيئات الأمم المتحدة في هذا الخصوص، فإليكم ما جاء في تقرير "المكتب القومي لسياسات مكافحة المخدرات" التابع للبيت الأبيض. ذلك أن الصورة هنا تبدو أكثر سوداوية وقتامة مما جاء في تقرير الأمم المتحدة. يقول التقرير: ارتفعت زراعة الخشخاش في أفغانستان لهذا العام، بنسبة 23 في المئة، بينما تجاوزت إنتاجية أفغانستان من الأفيون نسبة 73 في المئة من الإنتاجية العالمية المحتملة لعام 2003. واستنتج التقرير أن تلك الزيادة، تمثل ستة أمثال ما كان عليه معدل الإنتاج خلال السنوات الثلاث، التي أعقبت انهيار نظام طالبان.
وأياً ما كانت المصادر التي ستعتمد لتصديق هذه الرواية، فإن الذي لا شك فيه، هو أن زراعة وتجارة المخدرات، قد بلغت ذروتها خلال السنوات الثلاث الماضية. كما أكدت التقارير الصادرة من كل من الأمم المتحدة والبيت الأبيض، أن تجارة المخدرات والإرهاب، إنما هما رديفان ووجهان لعملة واحدة تقريباً. وتنطبق هذه الحقيقة على أفغانستان أكثر من غيرها، حيث وفرت المخدرات، دعماً مباشراً أو غير مباشر، للجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة. وبالطبع فقد تسلمت إدارة بوش مهامها، وهي أكثر انشغالا بالحرب على المخدرات، وليس بالحرب على الإرهاب. فقبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وعلى الرغم من أن أفغانستان كانت تؤوي حينها زعيم تنظيم القاعدة ونشاطه، إلا أن البيت الأبيض أعرب عن سعادته بالحملة التي شنتها حكومة طالبان على تجارة المخدرات وقتئذ. ففي مايو من عام 2001 أعلن كولن باول أن أميركا قد قررت منح كابول مساعدة إنسانية قيمته